
يقول الله سبحانه وتعالى في سوره المُلك: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ" [ألمُلك : ايه 1-4] (*) , ان هذه الايات الكريمه في نظري, هي من أحدى الايات الجامعات لقصه الخلق بمجمله, وهي سجل مبهر يلخص القدره الالهيه المطلقه لمفردات ومجمل الخلق واعجازه, شاملا لخلق الموت والحياه والكون والسماوات وتوازن هذا الخلق واتزانه اضافه الى الظواهر والاشارات الغيبيه المتعلقه بهذا الخلق وكينونته.
لقد استهل سبحانه وتعالى هذه الايات ببيان تقدَّسَه وتنزَّهه وتعاليه وببيان قدرته المطلقه و تملُكه لكل شيء, ثم ابتدأ سبحانه وتعالى وجلت قدرته بالاشار الى خلق الموت وخلق الحياه, فالموت مخلوق سبق خلق الحياه, حيث ان الخلق بمجمله ابتدأ بخلق ميت لا حياه فيه (**) , خُلقت له الحياه بكلمه من خالقه " كن " فكان" كما اراد له الله سبحانه وتعالى أن يكون.
وخلق الموت والحياه لا يقتصر اثره وفعله على البشر فقط, بل يشتمل على مجمل خلقه سبحانه, بدأ من السماوات وما فيهن وانتهاء بخلقه من الاحياء كالجان والبشر وكما بينه سبحانه بقوله " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ", فتقديم الموت على الحياه في هذه الآيات الكريمه وفي مجمل الايات القرآنيه لكتاب الله, هو اشاره الى ان الموت ما هو الا صوره للعدم السابق قبل الحياه, كقوله سبحانه وتعالى: " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون " [ألبقره : ايه 28] . اي ان مجمل الخلق بدأ بخلق ميت ترتب من العدم بقدرته سبحانه وتعالى قبل ان تخلق له الحياه.
تستمر هذه الايات الكريمه في سرد المشاهد الكونيه التي ترتبت على خلق الموت والحياه, مُقرنه هذا الخلق بحدث الابتلاء كما جاء بقوله سبحانه وتعالى " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ", وكما اسلفنا في الفصول السابقه فلقد كان الهدف من الخلق عموما, هو ممارسة المخلوق لما هداه الله سبحانه وتعالى اليه من عباده وشكر, فالكون المدرك بمليارات مجراته ونجومه وسياراته تشكر خالقها سبحانه وتعالى في كل لحظه باتباعها أوامر الله خاضعه للقوانين الكونية التي خلقها الله عليها ولا تخالفها ويسبحون الله الخالق الباريء بدون امر تكليف كما هو الحال عند البشر وباقي خلقه سبحانه وتعالى, اما بني آدم فلقد قبلوا حمل الامانه وكان لهم الخيار المرتبط بالمشيئه الالهيه, اما الشكر واما الكفر وكما جاء في قوله سبحانه: " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا " [الانسان - ايه 76], وهو قانون الثواب والعقاب الالهي, فمن عَبَد خالقه سبحانه مطيعا لاوامره ومتجنبا معصيته فقد شكر واثيب على ذلك باحسن مما شكر, ومن لم يعبد الله خالقه سبحانه ولم يكن مطيعا لاوامره ولم يتجنب معصيته فقد كفر, واثيب على ذلك بمثل ما كفر, وهو قانون ابتلاء كقوله تعالى: " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا" [الكهف - ايه 7] , ويخضع فيه بني آدم لرحمه الله عز وجل ومغفرته وتبعا لمشيئته سبحانه.
أن حدثا الموت والحياه كمخلوقين للخالق عز وجل يخضع لهما جميع انواع خلقه سبحانه وتعالى الا من يشاء, كقوله سبحانه: " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ " [الزمر - ايه 68] , انه موت تتلوه الحياه, موت لا يقتصر على خلق الله من البشر أو الجان بل يعم جميع خلقه سبحانه وتعالى كقوله عز وجل: " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " [القصص - ايه 88], ولفظه "الشيء" هنا تعمم على الاحياء وعلى الماده بجميع صورها وتعمم على جميع انواع خلقه سبحانه , انه موت يحيق بكل شيء, من الكواكب والمجرات وجميع اشكال الماده والطاقه في مجمل الكون بما فيها من خلائق واحياء مرئيه وغير مرئيه, وبعد هذا الموت تأتي الحياه والبعث والنشور ليشمل جميع خلقه سبحانه وتعالى إلاّ ما شاء.
" تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ " [ألمُلك : ايه 1-4]
(*) عن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ان سورة في القران ثلاثين اية شفعت لصاحبها حتى غفر له " وقرأ : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .... " وقال صلى الله عليه وآله و سلم : " هي المانعه هي المنجيه تنجيه من عذاب القبر".
(**) هنالك فرق بين معنى العدم والموت, فالعدم يعني "اللا وجود" للشيء بالمطلق لا حاضرا ولا كان في شيء في الماضي, والموت يعني حاله من حالات الشيء الموجود والمخلوق من العدم باعتباره مخلوق بلا روح أو مخلوق بلا حياه , والذي قد يصبح حيا اذا منحت له الروح ..إذن الموت والحياة صورتين من صور الوجود وهما بذلك نقيضي العدم .
(***) قام بعض المفسرين اثابهم الله بتفسير السموات السبع بانهاعبارة عن الطبقات المتوالية المحيطة بالأرض فالطبقة الأولى في رايهم: هي سقف الهواء لا يتعداه إنما تبقى تحته مشدودة للأرض، والطبقة الثانية في رأيهم: هي سقف الغيوم لا تتعداه، بل تبقى مشدودة للأرض، والطبقة الثالثة في رأيهم : سقف القمر لا يتعداه، إنما يبقى مشدوداً للأرض، والطبقة الرابعة في رأيهم : سقف الكواكب لا تتعداه مشدودة للأرض، والطبقة الخامسة: سقف الشمس لا تتعداه، والطبقة السادسة: سقف النجوم أيضاً لا تتعداه، والطبقة السابعة والأخيرة: هي السماء المحيطة بكل السموات وما فيهن كقشرة البيضة الخارجية وقد أحاطت بكل مكونات البيضة، أو قشرة ثمره البطيخ وقد أحاطت بكل مكوناته وحفظتها، السماء السابعة تحفظ السموات الست بما فيهن من الخلل والتبعثر العشوائي، ... انتهى التفسير. وفي رأيي المتواضع ان اجتهادهم اثابهم الله عليه قد حُمّل بغير ما قصد به في معنى السماوات السبع وهو ما شرحته تفصيلا في سياق هذا الكتاب, فان وفقت فمن الله سبحانه وتعالى وان اخطأت فهو من عمل الشيطان, استعيذ بالله لي ولكم من كيده وشروره.
(****) يختلف عدد الطبقات الجيولوجيه للارض عند الجيولوجيون ما بين 12-5 طبقات تبعا لرؤيتهم المختلفه, فمنهم من يتّبع الخصائص الكيمائيه لتقسيم تلك الطبقات ومنهم من يتبع الخصائص الجيولوجيه والفيزيائيه لذلك, غير ان المتفق عليه عند اغلب علماء الارض ان عدد الطبقات الجيولوجيه للارض هي سته طبقات على الاكثر, حيث انهم يرون ان" الجزء الداخلي من كوكب الأرض ينقسم ، مثله في ذلك مثل غيره من الكواكب الأخرى، إلى عدة طبقات، وذلك طبقًا للخصائص الكيميائية أو الريولوجية (علم الجريان) ـ ذلك العلم المعني بحالات المادة وما يحدث فيها من حيث اللزوجة والتمدد والتلدن بتأثير العوامل الخارجية الفيزيائية - فعند النظر إلى الطبقة الخارجية لكوكب الأرض من الناحية الكيميائية، يُلاحظ أنها عبارة عن قشرة صلبة رقيقة نسبيا يبلغ سمكها نحو 50 كيلومتر، تتميز بتكونها من معادن خفيفة نسبيا أغلبها السليكات. وتطفو تلك القشرة الخفيفة التي تحوي القارات والمحيطات والبحار فوق غلاف الأرض، وهو أشد كثافة عن مادة السطح ويتكون من مادة صلبة عالية اللزوجة. هذا ويفصل انقطاع موهو -انقطاع زلزالي يفصل قشرة الأرض عن الوشاح الذي تحتها، ويستدل عنه من منحنيات الزمن الارتحالية التي تببين تعرض الموجات الزلزالية إلى زيادة مفاجئة في السرعة- بين القشرة الأرضية والوشاح الأرضي، كما أن سمك القشرة الأرضية يختلف من مكان إلى آخر؛ حيث يكون متوسط سمكها تحت المسطحات المائية 6 كيلومترات ويتراوح بين 30 و 50 كيلومتر في القارات. يُطلق على كل من القشرة الأرضية والجزء السطحي من الوشاح الأرضي العلوي الذي يتسم بالبرودة والصلابة اسم "الغلاف الصخري" أو "الغلاف الحجري"، وهو الذي تتكون منه الألواح التكتونية. ويقع أسفل الغلاف الصخري نطاق الانسياب (وهو جزء الوشاح العلوي تحت النطاق الصخري الجامد، وهذا الجزء لدن بالدرجة التي تسمح بالانسياب الصخري) الذي يعتبر بمثابة طبقة تتسم بلزوجة منخفضة نسبيًا يرتكز عليها الغلاف الصخري. هذا وقد ظهرت تغيرات مهمة في البنية البلورية التي تقع داخل الوشاح الأرضي وذلك على بُعد 410 و 660 كيلومتر أسفل سطح الأرض، تلك المسافة التي تمثل نطاقًا انتقاليًا يفصل بين الوشاح الأرضي العلوي والوشاح الأرضي السفلي. وأسفل الوشاح الأرضي، يوجد لب خارجي سائل يتسم بلزوجة منخفضة للغاية أعلى اللب الداخلي الصلب. وقد يدور اللب الداخلي بسرعة زاوية (المعدل الزمني لتغير الإزاحة الزاوية) أعلى من السرعة التي تدور بها باقي أجزاء الكوكب، كما أن درجة حرارته تزيد بنسبة 0.1 إلى 0.5 درجات مئوية كل عام.
والاشاره التاليه التي تلت خلق الموت والحياه وحدث الابتلاء في هذه الايات الكريمه السابقه هو حدث خلق سبع سماوات طباقا كقوله سبحانه وتعالى " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً " , وليس المقصود هنا التفسير الضيق للسماوات السبع الذي اجتهد فيه بعض المفسرون (***) والذين اشاروا فيه الى ان المقصود بهذه السماوات هو الطبقات المتوالية المحيطة بالأرض, وهذا التفسير غير موفق للاسباب التاليه:
-
ان الله سبحانه وتعالى استوى على السماء وهي دخان وقبل ان تخلق الارض والمجره التابعه لها, فقضاهن سبعه سماوات كقوله سبحانه وتعالى: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ*فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ " [ فصلت: آيه 11-12], فقوله سبحانه وتعالى في سياق هذه الآيه الكريمه "وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ" يعني ان ما تحت سقف السماء الدنيا قد زين بالنجوم والكواكب ولم تقف حدود السماء الدنيا عند فضاء الارض او عند فضاء ما يحيط بها كالقمر والشمس والكواكب وما الى ذلك.
-
أن الله سبحانه وتعالى قد خلق السماوات السبع مصاحبه لخلق سبعه كواكب كالارض كقوله سبحانه وتعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ " [الطلاق - ايه 12] , فكلمه "مثلهن" اي مثل السموات بالعدد وليست بمعنى طبقات الارض كما اجتهد بعض الزملاء اثابهم الله, لان صفه الطبقات قرنت بالسماوات فقط في مواقع أخرى من القرآن الكريم كقوله سبحانه وتعالى: " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً " [ألمُلك : ايه 3] ,ولم تقرن بخلق السماء في هذه الايه الكريمه, وبالتالي فان لكل ارض من الارضين السبعه سماء تخصها وزينه من الكواكب تخصها كذلك.

-
أن الله سبحانه وتعالى قد اشار في كتابه العزيز بقوله سبحانه: " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ " [الاسراء - ايه 44] , بان السماوات السبع والارض ومن فيهن من خلق تسبح الله سبحانه وتعالى خالقها ومصورها, وهذا الامر لا يمكن ان ينطبق على التفسير القائل بان السماوات هي الطبقات المتوالية المحيطة بالأرض او بالطبقات الجيولوجيه السبع للارض ان صح هذا التقسيم (****) , فالطبقات الجيولوجيه للارض هي وصف علمي لمكونات ما خفي من ماده الارض تحت سطحها وهي عند اغلب علماء علوم الارض لا تزيد عن سته طبقات اساسيه .
اذن فالسماوات قد خلقت سبعه سماوات طباقا بدأ من السماء الدنيا التي ابتدأ عندها الخلق بمجمله وانتهاء بالسماء السابعه كنهايه لحدود الكون بمجمله, وكل سماء تتمايز عن الاخرى كقوله سبحانه وتعالى : " وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا " كما ان لكل سماء ارضها التي تشابه ارضنا خلقا, وتتمايز عنها بنوع خلقها تبعا للامر الموحى لها مع سمائها.
تبارك الذي بيده الملك
موقع د. مهندس مأمون عبد القادر شاهين الاعجاز القرآني برؤيا علمية متجدده

Email: mshahin@digimeters.com
الماده العلميه في هذا الموقع هي جزأ من مقالات وكتب «د. مهندس مامون شاهين» المنشوره , لا يسمح بالاقتباس او النشر لاي من المواد او المقالات جزئيا او كليا دون ان ينسب المقال الى «د. مهندس مامون شاهين» - يحظ ر استخدام العمل لأية غايات تجارية - يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص
Last Update: April 2018
© 2012-2017 by Mamoun A. Shahin. Proudly created with Wix.com